الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
قَالَ الْعُلَمَاءُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-: الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الطُّوَلُ، وَالْمِئُونَ، وَالْمَثَانِي، وَالْمُفَصَّلُ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ جِهَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ. وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ فِيهِ لِينٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. فَالسَّبْعُ الطُّوَلُ الْمُرَادُ بِهَا أَوَّلُهَا " الْبَقَرَةُ "، وَآخِرُهَا " بَرَاءَةُ "؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ " الْأَنْفَالَ " وَ " بَرَاءَةَ " سُورَةً وَاحِدَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا نَزَلَتَا جَمِيعًا فِي مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسُمِّيَتْ طُوَلًا لِطُولِهَا، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ عَدَّ السَّبْعَ الطُّوَلَ: " الْبَقَرَةَ "، وَ " آلَ عِمْرَانَ "، وَ " النِّسَاءَ "، وَ " الْمَائِدَةَ "، وَ " الْأَنْعَامَ "، وَ " الْأَعْرَافَ "، وَ " يُونُسَ ". وَالطُّوَلُ- بِضَمِّ الطَّاءِ-: جَمْعُ طُولَى، كَالْكُبَرِ جَمْعُ كُبْرَى، قَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ: " وَكَسْرُ الطَّاءِ مَرْذُولٌ ". وَالْمِئُونَ الْمُرَادُ بِهَا: مَا وَلِيَ السَّبْعَ الطُّوَلَ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنْهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ آيَةٍ أَوْ تُقَارِبُهَا. وَالْمَثَانِي الْمُرَادُ بِهَا: مَا وَلِيَ الْمِئِينَ؛ وَقَدْ تُسَمَّى سُوَرُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مَثَانِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (الزُّمَرِ: 23)، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87). وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِيَ؛ لِأَنَّ الْأَنْبَاءَ وَالْقِصَصَ تُثَنَّى فِيهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَثَانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87) هِيَ آيَاتُ سُورَةِ الْحَمْدِ، سَمَّاهَا مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَالْمُفَصَّلُ الْمُرَادُ بِهِ: مَا يَلِي الْمَثَانِيَ مِنْ قِصَارِ السُّوَرِ، سُمِّيَ مُفَصِّلًا لِكَثْرَةِ الْفُصُولِ الَّتِي بَيْنَ السُّوَرِ بِـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَقِيلَ: لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ. وَآخِرُهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وَفِي أَوَّلِهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا: أَحَدُهَا: " الْجَاثِيَةُ ". ثَانِيهَا: " الْقِتَالُ "، وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ. ثَالِثُهَا: " الْحُجُرَاتُ ". رَابِعُهَا: " ق "، قِيلَ: وَهِيَ أَوَّلُهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَفِيهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِهِ " يَرْوِيهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْلَى الطَّائِفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ، قَالَ: وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ " ق ". وَقِيلَ: إِنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ فِي " الْمُسْنَدِ "، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَكَاهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. الْخَامِسُ: " الصَّافَّاتُ ". السَّادِسُ: " الصَّفُّ ". السَّابِعُ: تَبَارَكَ؛ حَكَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ فِي " نُكَتِ التَّنْبِيهِ ". الثَّامِنُ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ حَكَاهُ الدَّزْمَارِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ الْمُسَمَّى " رَفَعَ التَّمْوِيهِ ". التَّاسِعُ: الرَّحْمَنُ حَكَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ فِي " أَمَالِيهِ عَلَى الْمُوَطَّأِ "، وَقَالَ: إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قُلْتُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " كَذَلِكَ. الْعَاشِرُ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ. الْحَادِي عَشَرَ: {سَبِّحْ} حَكَاهُ ابْنُ الْفِرْكَاحِ فِي تَعْلِيقِهِ عَنِ الْمَرْزُوقِيِّ. الثَّانِي عَشَرَ: {وَالضُّحَى} وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ؛ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِهِ " وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَفْصِلُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُرَّاءِ مَكَّةَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ أَوَّلَهُ " ق "، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " فِي بَابِ تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا قُرَّانُ بْنُ تَمَّامٍ، ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ- وَهَذَا لَفْظُهُ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَوْسٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، قَالَ: فَنَزَلَتِ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ، قَالَ مُسَدَّدٌ: وَكَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعَشَاءِ يُحَدِّثُنَا- قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا سَوَاءَ، كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ- قَالَ مُسَدَّدٌ: بِمَكَّةَ- فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ، أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا اللَّيْلَةَ. قَالَ: إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ. قَالَ أَوْسٌ: فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخُمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو يَعْلَى الطَّائِفِيُّ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا عَدَدْتَ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سُورَةً كَانَتِ الَّتِي بَعْدَهُنَّ سُورَةُ " ق ". بَيَانُهُ: ثَلَاثٌ: " الْبَقَرَةُ "، وَ " آلُ عِمْرَانَ "، وَ " النِّسَاءُ "، وَخَمْسٌ: " الْمَائِدَةُ "، وَ " الْأَنْعَامُ "، وَ " الْأَعْرَافُ "، وَ " الْأَنْفَالُ "، وَ " بَرَاءَةُ "، وَسَبْعٌ: " يُونُسُ "، وَ " هُودٌ "، وَ " يُوسُفُ "، وَ " الرَّعْدُ "، وَ " إِبْرَاهِيمُ "، وَ " الْحِجْرُ "، وَ " النَّحْلُ "، وَتِسْعٌ: " سُبْحَانَ وَ " الْكَهْفُ "، وَ " مَرْيَمُ "، وَ " طه "، وَ " الْأَنْبِيَاءُ "، وَ " الْحَجُّ "، وَ " الْمُؤْمِنُونَ "، وَ " النُّورُ "، وَ " الْفُرْقَانُ "، وَإِحْدَى عَشْرَةَ: " الشُّعَرَاءُ "، وَ " النَّمْلُ "، وَ " الْقَصَصُ "، وَ " الْعَنْكَبُوتُ "، وَ " الرُّومُ "، وَ " لُقْمَانُ "، وَالم السَّجْدَةُ "، وَ " الْأَحْزَابُ "، وَ " سَبَأٌ "، وَ " فَاطِرٌ "، وَ " يس "، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ: " الصَّافَّاتُ "، وَ " ص "، وَ " الزُّمَرُ "، وَ " غَافِرٌ "، وَ " حم السَّجْدَةُ "، وَ " حم عسق "، وَ " الزُّخْرُفُ "، وَ " الدُّخَانُ " وَ " الْجَاثِيَةُ " وَ " الْأَحْقَافُ "، وَ " الْقِتَالُ "، وَ " الْفَتْحُ "، وَ " الْحُجُرَاتُ "، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حِزْبُ الْمُفَصَّلِ، وَأَوَّلُهُ سُورَةُ " ق "، وَأَمَّا " آلُ حم " فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: سُوَرُ اللَّهِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، وَكَمَا قِيلَ: بَيْتُ اللَّهِ، قَالَ الْكُمَيْتُ: وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حم آيَةً *** تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ وَقَدْ يُجْعَلُ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَيَدْخُلُ الْإِعْرَابُ عَلَيْهَا وَيُصْرَفُ، وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ فِي الْجَمْعِ: الْحَوَامِيمُ؛ كَمَا يُقَالُ: طس وَالطَّوَاسِينُ. وَكَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ- مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ- أَنْ يُقَالَ: الْحَوَامِيمُ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ: " آلُ حم ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: " آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا؛ وَلُبَابُ الْقُرْآنِ حم، أَوْ قَالَ: الْحَوَامِيمُ ". وَقَالَ مِسْعَرُ بنُ كِدَامٍ: " كَانَ يُقَالُ لَهُنَّ الْعَرَائِسُ " ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ". وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: " ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ مَنْزِلًا، فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ؛ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ؛ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عِظَمِ الْقُرْآنِ؛ وَإِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ الرَّوْضَاتِ مَثَلُ " حم " فِي الْقُرْآنِ. أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ الْمُقْرِئُ: " عَدَدُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً- وَقَالَ- بَعَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ إِلَى قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، فَجَمَعَهُمْ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَأَبَا الْعَالِيَةِ، وَنَصْرَ بْنَ عَاصِمٍ، وَعَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ، وَمَالِكَ بْنَ دِينَارٍ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- وَقَالَ: عُدُّوا حُرُوفَ الْقُرْآنِ. فَبَقَوْا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَعُدُّونَ بِالشَّعِيرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ كَلِمَةٍ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ حُرُوفِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا ". انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقِيلَ: وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً. وَقِيلَ: مِائَتَانِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَقِيلَ: مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً، أَوْ سِتٌّ وَعِشْرُونَ آيَةً، وَقِيلَ: مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ. حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ " الْبَيَانِ ". وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ: فَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ شَاذَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً. وَأَمَّا حُرُوفُهُ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَرْفٍ، وَقَالَ سَلَّامٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ جَمَعَ الْقُرَّاءَ وَالْحُفَّاظَ وَالْكُتَّابَ فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ؛ كَمْ مِنْ حَرْفٍ هُوَ؟ قَالَ: فَحَسَبْنَاهُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا وَسَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَرْفًا. قَالَ: فَأَخْبِرُونِي عَنْ نِصْفِهِ. فَإِذَا هُوَ إِلَى الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي " الْكَهْفِ ": {وَلْيَتَلَطَّفْ} (الْآيَةَ: 17)،، وَثُلُثُهُ الْأَوَّلُ عِنْدَ رَأْسِ مِائَةٍ مِنْ بَرَاءَةَ، وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ أَوْ إِحْدَى وَمِائَةٍ مِنَ " الشُّعَرَاءِ "، وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِهِ، وَسُبْعُهُ الْأَوَّلُ إِلَى الدَّالِ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} (النِّسَاءِ: 55)، وَالسُّبْعُ الثَّانِي إِلَى التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي " الْأَعْرَافِ ": {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (الْآيَةَ: 147)، وَالثَّالِثُ إِلَى الْأَلِفِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِي " الرَّعْدِ ": {أُكُلُهَا} (الْآيَةَ: 35)، وَالرَّابِعُ إِلَى الْأَلِفِ فِي " الْحَجِّ " مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلْنَا مَنْسَكًا (الْآيَةَ: 34 وَ 67)، وَالْخَامِسُ إِلَى الْهَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي " الْأَحْزَابِ ": {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} (الْآيَةَ: 36)، وَالسَّادِسُ إِلَى الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْفَتْحِ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} (الْآيَةَ: 6)، وَالسَّابِعُ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ سَلَامٌ: عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. قَالُوا: وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُبْعَ الْقُرْآنِ، فَالْأَوَّلُ إِلَى آخِرِ " الْأَنْعَامِ "، وَالثَّانِي إِلَى {وَلْيَتَلَطَّفْ} (الْآيَةَ: 19)، مِنْ سُورَةِ " الْكَهْفِ "، وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِ الْمُؤْمِنِ، وَالرَّابِعُ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ " الْبَيَانِ " خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ. وَأَمَّا التَّحْزِيبُ وَالتَّجْزِئَةُ فِي الْقُرْآنِ فَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْأَجْزَاءُ مِنْ ثَلَاثِينَ، كَمَا فِي الرَّبِعَاتِ بِالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سَأَلَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَيَاتِهِ: " كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخُمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ " ق " حَتَّى يَخْتِمَ ". أَسْنَدَ الزُّبَيْدِيُّ فِي كِتَابِ " الطَّبَقَاتِ " عَنِ الْمُبَرِّدِ: أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ نَقَطَهُ لَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ: أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ أَنْ يَنْقُطَ الْمَصَاحِفَ. وَذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ " الْأَمْصَارِ " أَنَّ نَصْرَ بْنَ عَاصِمٍ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: نَصْرُ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا وَضْعُ الْأَعْشَارِ فِي الْمُصْحَفِ: فَقِيلَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ الْعَبَّاسِيَّ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَدَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً؛ كَمَا هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، أَوَّلُهَا الْفَاتِحَةُ وَآخِرُهَا النَّاسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " وَثَلَاثَ عَشْرَةَ بِجَعْلِ " الْأَنْفَالِ "، وَ " التَّوْبَةِ " سُورَةً وَاحِدَةً لِاشْتِبَاهِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ. وَيَرُدُّهُ تَسْمِيَةُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلًّا مِنْهُمَا، وَكَانَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ اثْنَا عَشَرَ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ؛ لِشُبْهَةِ الرُّقْيَةِ، وَجَوَابُهُ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ، وَمَا كَتَبَ الْكُلَّ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْقُنُوتِ فِي آخِرِهِ كَالسُّورَتَيْنِ. وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِمْ، وَهُوَ دُعَاءٌ كُتِبَ بَعْدَ الْخَتْمَةِ. وَعَدَدُ آيَاتِهِ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ، وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَفِي قَوْلِ أُبَيٍّ: " سِتَّةُ آلَافٍ وَمِئَتَانِ وَثَمَانِ عَشْرَةَ. وَعَطَاءٍ: سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسَبْعُونَ. وَحُمَيْدٌ: سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ. وَرَاشِدٌ: " سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعٌ ". وَقَالَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ: نِصْفُهُ {مَعِيَ صَبْرًا} (الْآيَةَ: 67)، فِي " الْكَهْفِ "، وَقِيلَ: عَيْنُ (تَسْتَطِيعَ) (الْكَهْفِ: 67)، وَقِيلَ: ثَانِي لَامَيْ {وَلْيَتَلَطَّفْ} (الْكَهْفِ: 19). وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدِّ الْآيِ وَالْكَلِمِ وَالْحُرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ لِلتَّوْقِيفِ؛ فَإِذَا عُلِمَ مَحَلُّهَا وَصَلَ لِلتَّمَامِ، فَيَحْسَبُ السَّامِعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَاصِلَةً. وَأَيْضًا الْبَسْمَلَةُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؛ فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا، وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الْكَلِمَةِ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَهَا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، وَلَفْظٌ وَرَسْمٌ، وَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنْهَا جَائِزٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ اعْتَبَرَ أَحَدَ الْجَوَائِزِ. وَأَطْوَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ هِيَ " الْبَقَرَةُ "، وَأَقْصَرُهَا " الْكَوْثَرُ ". وَأَطْوَلُ آيَةٍ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الدَّيْنِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ كَلِمَةً، وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَرْفًا. وَأَقْصَرُ آيَةٍ فِيهِ {وَالضُّحَى}، ثُمَّ {وَالْفَجْرِ} كُلُّ كَلِمَةٍ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ تَقْدِيرًا ثُمَّ لَفْظًا، سِتَّةٌ رَسْمًا، لَا {مُدْهَامَّتَانِ}؛ لِأَنَّهَا سَبْعَةُ أَحْرُفٍ لَفْظًا وَرَسْمًا، وَثَمَانِيَةٌ تَقْدِيرًا، وَلَا (ثُمَّ نَظَرَ) (الْمُدَّثِّرِ: 21)؛ لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ، خَمْسَةُ أَحْرُفٍ رَسْمًا وَكِتَابَةً، وَسِتَّةُ أَحْرُفٍ تَقْدِيرًا؛ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَأَطْوَلُ كَلِمَةٍ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ لَفْظًا وَكِتَابَةً بِلَا زِيَادَةٍ {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الْحِجْرِ: 22)، أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا، ثُمَّ {اقْتَرَفْتُمُوهَا} (التَّوْبَةِ: 24)، عَشَرَةٌ، وَكَذَا {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} (هُودٍ: 28)، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} (النِّسَاءِ: 75)، ثُمَّ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (النُّورِ: 55) تِسْعَةٌ لَفْظًا، وَعَشَرَةٌ تَقْدِيرًا. وَأَقْصَرُهَا نَحْوَ بَاءِ الْجَرِّ حَرْفٌ وَاحِدٌ، لَا أَنَّهَا حَرْفَانِ خِلَافًا لِلدَّانِيِّ فِيهِمَا.
قَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَنْصَافٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِبَارَاتِهِ: فَنِصْفُهُ بِالْحُرُوفِ: " النُّونُ " مِنْ قَوْلِهِ: (نُكْرًا) فِي سُورَةِ " الْكَهْفِ " (الْآيَةَ: 74)،، وَ " الْكَافُ " مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي. وَنِصْفُهُ بِالْكَلِمَاتِ: " الدَّالُ " مِنْ قَوْلِهِ: (وَالْجُلُودُ) فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " (الْآيَةَ: 20)،، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (الْحَجِّ: 21)، مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي. وَنِصْفُهُ بِالْآيَاتِ: (يَأْفِكُونَ) مِنْ سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " (الْآيَةَ: 45)،، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} (الشُّعَرَاءِ: 46) مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي. وَنِصْفُهُ عَلَى عَدَدِ السُّوَرِ: فَالْأَوَّلُ " الْحَدِيدُ "، وَالثَّانِي مِنْ " الْمُجَادَلَةِ ".
سُئِلَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: كَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا غُرُورًا}؟ فَأَجَابَ: فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: مِنْ " النِّسَاءِ " (الْآيَةَ: 120)،، وَ " سُبْحَانَ " (الْإِسْرَاءِ: 64)، وَ " الْأَحْزَابِ " (الْآيَةَ: 12)، وَ " فَاطِرٍ " (الْآيَةَ: 40). وَسُئِلَ الْكِسَائِيُّ: كَمْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً أَوَّلُهَا شِينٌ؟ فَأَجَابَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ شَهْرُ رَمَضَانَ (الْبَقَرَةِ: 185)، شَهِدَ اللَّهُ (آلِ عِمْرَانَ: 18)، {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} (النَّحْلِ: 121)، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} (الشُّورَى: 13)، وَسُئِلَ: كَمْ آيَةً آخِرُهَا شِينٌ؟ فَأَجَابَ: اثْنَانِ: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (الْقَارِعَةِ: 5)، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قُرَيْشٍ: 1). وَسُئِلَ آخَرُ: كَمْ (حَكِيمٌ عَلِيمٌ)؟ قَالَ: خَمْسَةٌ؛ ثَلَاثَةٌ فِي " الْأَنْعَامِ " (الْآيَاتِ: 83 وَ128 وَ139)، وَفِي " الْحِجْرِ " (الْآيَةَ: 25)، وَاحِدٌ، وَفِي " النَّمْلِ " وَاحِدٌ (الْآيَةَ: 6).
أَكْثَرُ مَا اجْتَمَعَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَحَرِّكَةِ ثَمَانِيَةٌ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ " يُوسُفَ ": أَحَدُهُمَا: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (الْآيَةَ: 4) فَبَيْنَ وَاوِ (كَوْكَبًا) وَيَاءِ (رَأَيْتُ) ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ كُلُّهُنَّ مُتَحَرِّكٌ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} (يُوسُفَ: 80)، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ حَرَّكَ الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ: لِيَ وَ أَبِيَ، وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (الْقَصَصِ: 35).
وَفِي الْقُرْآنِ سُوَرٌ مُتَوَالِيَاتٌ، كُلُّ سُورَةٍ تَجْمَعُ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشَّرْحِ: 1) إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَجْمَعُ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (الْفَتْحِ: 29) الْآيَةَ.
وَسُورَةٌ كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا فِيهَا اسْمُهُ تَعَالَى، وَهِيَ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ. وَفِي " الْحَجِّ " سِتَّةُ آيَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي آخِرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} (الْحَجِّ: 59).
وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ أَوَّلُهَا: قُلْ يَا أَيُّهَا ثَلَاثٌ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} (يُونُسَ: 104)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ} (الْجُمُعَةِ: 6)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1). وَفِيهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ آيَتَانِ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الِانْفِطَارِ: 6)، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} (الِانْشِقَاقِ: 6).
آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ مِيمًا، وَهِيَ: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} (هُودٍ: 48) الْآيَةَ، وَآيَةٌ فِيهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ مِيمًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} (الْبَقَرَةِ: 282).
سُورَةٌ تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ آيَةٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، سُورَةُ " يُوسُفَ ". آيَةٌ فِيهَا: الْجَنَّةُ مَرَّتَانِ: {لَا يُسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الْحَشْرِ: 20).
ثَلَاثُ آيَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ: الْأُولَى رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، وَالْأُخْرَى رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ، وَالْأُخْرَى رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، قَوْلُهُ: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 98)، رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} (الْآيَةَ: 99)، رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} (الْآيَةَ: 100)، رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ.
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ " حَاءٌ " بَعْدَهَا " حَاءٌ " لَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي " الْبَقَرَةِ ": {عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى} (الْآيَةَ: 235)، وَفِي " الْكَهْفِ ": {لَا أَبْرَحُ حَتَّى} (الْآيَةَ: 60).
لَيْسَ فِيهِ كَافَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا حَرْفَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي " الْبَقَرَةِ ": {مَنَاسِكَكُمْ} (الْآيَةَ: 200)،، وَفِي الْمُدَّثِّرِ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (الْآيَةَ: 42).
فَأَمَّا الْآيَاتُ فِي كُلِّ سُورَةٍ وَوَضْعُ الْبَسْمَلَةِ أَوَائِلَهَا فَتَرْتِيبُهَا تَوْقِيفِيٌّ بِلَا شَكٍّ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْكِيسُهَا. قَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ هُوَ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةَ تُرِكَتْ بِلَا بَسْمَلَةٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَحُكْمٌ لَازِمٌ، فَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يَقُولُ: ضَعُوا آيَةَ كَذَا فِي مَوْضِعِ كَذَا. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَدْخَلِ " وَ " الدَّلَائِلِ " عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ إِذْ قَالَ: طُوبَى لِلشَّامِ فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهِ زَادَ فِي " الدَّلَائِلِ ": نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ فِي الرِّقَاعِ. قَالَ: وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْلِيفَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهَا وَجَمْعِهَا فِيهَا بِإِشَارَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَالَ: فِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ جَمْعَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ جُمِعَ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالْجَمْعُ الثَّالِثُ- وَهُوَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ- كَانَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحَرْفِ الَّذِي كَتَبَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ فَقِيلَ: حَرْفُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقِيلَ: حَرْفُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّهُ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَمَعْنَى حَرْفِ زَيْدٍ، أَيْ: قِرَاءَتُهُ وَطَرِيقَتُهُ. وَفِي كِتَابِ " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " لِأَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا، فَقَالَ: ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَاخْتُلِفَ: هَلْ هُوَ تَوْقِيفٌ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُفَصَّلْ؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: 1- مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ، فِيمَا اعْتَمَدَهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى الثَّانِي، وَأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى أُمَّتِهِ بَعْدَهُ. 2- وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالثَّانِي يَقُولُ: إِنَّهُ رَمَزَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَمَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: إِنَّمَا أَلَّفُوا الْقُرْآنَ عَلَى مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ قَوْلِهِ بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ، فَآلَ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهُ: هَلْ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ قَوْلِيٍّ أَمْ بِمُجَرَّدِ اسْتِنَادٍ فِعْلِيٍّ، وَبِحَيْثُ بَقِيَ لَهُمْ فِيهِ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ مِنْهُ، كَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُهُ فَفِي مَاذَا أَعْمَلُوا الْأَفْكَارَ؟ وَأَيُّ مَجَالٍ بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ؟ قِيلَ: قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ سُورَةَ " الْبَقَرَةِ "، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ " النِّسَاءَ " فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ " آلَ عِمْرَانَ ". الْحَدِيثَ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُبَّمَا فَعَلَ هَذَا إِرَادَةً لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَتِبْيَانًا لِجَلِيلِ تِلْكَ النِّعْمَةِ كَانَ مَحَلًّا لِلتَّوَقُّفِ، حَتَّى اسْتَقَرَّ النَّظَرُ عَلَى رَأْيِ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ الْأَكْثَرُ. فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ. 3- وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ، مَالَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّوَرِ كَانَ قَدْ عَلِمَ تَرْتِيبَهَا فِي حَيَاتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَالسَّبْعِ الطِّوَالِ وَالْحَوَامِيمِ وَالْمُفَصَّلِ، وَأَشَارُوا إِلَى أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى الْأُمَّةِ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْآثَارُ تَشْهَدُ بِأَكْثَرَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَبْقَى مِنْهَا قَلِيلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ؛ كَقَوْلِهِ: اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: " الْبَقَرَةَ "، وَ " آلَ عِمْرَانَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِحَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّبْعِ الطِّوَالِ فِي رَكْعَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُصَنَّفِهِ "، وَفِيهِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجْمَعُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ فِي " بَنِي إِسْرَائِيلَ " وَ " الْكَهْفِ "، وَ " مَرْيَمَ "، وَ " طه "، وَ " الْأَنْبِيَاءِ ": " إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي " فَذَكَرَهَا نَسَقًا كَمَا اسْتَقَرَّ تَرْتِيبُهَا. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: " الْمُخْتَارُ أَنَّ تَأْلِيفَ السُّوَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ مَأْخُوذٌ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُورَةَ " الْأَنْفَالِ " سُورَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ بَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ ": " جَمْعُ الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَأْلِيفُ السُّوَرِ؛ كَتَقْدِيمِ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَتَعْقِيبِهَا بِالْمِئِينَ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّاهُ الصَّحَابَةُ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-. وَأَمَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ فَضَمُّ الْآيِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَعْقِيبُ الْقِصَّةِ بِالْقِصَّةِ، فَذَلِكَ شَيْءٌ تَوَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا أَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي " الْبُرْهَانِ ": تَرْتِيبُ السُّوَرِ هَكَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ يَعْرِضُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى جِبْرِيلَ كُلَّ سَنَةٍ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} (هُودٍ: 13)، مَعْنَاهُ مِثْلَ " الْبَقَرَةِ " إِلَى سُورَةِ " هُودٍ "، وَهِيَ الْعَاشِرَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُورَةَ " هُودٍ " مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّ " الْبَقَرَةَ "، وَ " آلَ عِمْرَانَ "، وَ " النِّسَاءَ "، وَ " الْمَائِدَةَ "، وَ " الْأَنْفَالَ " وَ " التَّوْبَةَ " مَدَنِيَّاتٌ نَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 4)، أَيْ: اقْرَأْهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَجَاءَ النَّكِيرُ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ مَعْكُوسًا. وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى التَّرْتِيبِ حُكْمُهُ لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ لَنَزَلَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؛ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ سُوَرُهُ وَآيَاتُهُ نُزُولًا، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَمِعَا نُزُولًا، وَأَبْلَغُ الْحِكَمِ فِي تَفَرُّقِهِ مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (الْإِسْرَاءِ: 106)، وَهَذَا أَصْلٌ بُنِيَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي الْمُصْحَفِ السُّوَرَ عَلَى تَارِيخِ نُزُولِهَا، وَقَدَّمَ الْمَكِّيَّ عَلَى الْمَدَنِيِّ، وَمِنْهُمْ جَعَلَ مِنْ أَوَّلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (الْعَلَقِ: 1) وَهُوَ أَوَّلُ مُصْحَفِ عَلِيٍّ، وَأَمَّا مُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَوَّلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الْفَاتِحَةِ: 4)، ثُمَّ " الْبَقَرَةُ "،، ثُمَّ " النِّسَاءُ "، عَلَى تَرْتِيبٍ مُخْتَلِفٍ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ كَانَ أَوَّلُهُ الْحَمْدَ، ثُمَّ " النِّسَاءَ "، ثُمَّ " آلَ عِمْرَانَ "، ثُمَّ " الْأَنْعَامَ "، ثُمَّ " الْأَعْرَافَ "، ثُمَّ " الْمَائِدَةَ "، عَلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَأَنَّ وَضْعَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْأَوَّلِ هُوَ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: " أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ فُرِّقَ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ، فَكَانَتِ السُّورَةُ تَنْزِلُ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، وَالْآيَةُ جَوَابًا لِمُسْتَخْبِرٍ؛ وَيَقِفُ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَوْضِعِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ، فَاتِّسَاقُ السُّوَرِ كَاتِّسَاقِ الْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ، كُلُّهُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنْ قَدَّمَ سُورَةً أَوْ أَخَّرَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ نَظْمَ الْآيَاتِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ نَظَمَ السُّوَرَ عَلَى الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَضَعُ الْفَاتِحَةَ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْضِعِ نُزُولِهَا، وَيُضْطَرُّ إِلَى تَأْخِيرِ الْآيَةِ فِي رَأْسِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ " الْبَقَرَةِ " إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ، وَمَنْ أَفْسَدَ نَظْمَ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ.
لِتَرْتِيبِ وَضْعِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ أَسْبَابٌ تُطْلِعُ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ صَادِرٌ عَنْ حَكِيمٍ: أَحَدُهَا: بِحَسَبِ الْحُرُوفِ، كَمَا فِي الْحَوَامِيمِ، وَثَانِيهَا: لِمُوَافَقَةِ أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا؛ كَآخِرِ " الْحَمْدِ " فِي الْمَعْنَى وَأَوَّلِ " الْبَقَرَةِ "، وَثَالِثُهَا: لِلْوَزْنِ فِي اللَّفْظِ كَآخِرِ " تَبَّتْ " وَأَوَّلِ " الْإِخْلَاصِ "، وَرَابِعُهَا: لِمُشَابَهَةِ جُمْلَةِ السُّورَةِ لِجُمَلِهِ الْأُخْرَى مِثْلَ: وَالضُّحَى وَ أَلَمْ نَشْرَحْ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ تَضَمَّنَتِ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصِّيَانَةَ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَسُورَةُ " الْبَقَرَةِ " تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الدِّينِ، وَ " آلُ عِمْرَانَ " مُكَمِّلَةٌ لِمَقْصُودِهَا؛ فَالْبَقَرَةُ بِمَنْزِلَةِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ، وَ " آلُ عِمْرَانَ " بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْخُصُومِ، وَلِهَذَا قُرِنَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُتَشَابِهِ مِنْهَا بِظُهُورِ الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ أَوَّلُهَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى، وَآخِرُهَا يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ أُحُدٍ. وَالنَّصَارَى تَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِهِ، فَأُجِيبُوا عَنْ شُبَهِهِمْ بِالْبَيَانِ، وَيَوْمَ أُحُدٍ تَمَسَّكَ الْكُفَّارُ بِالْقِتَالِ فَقُوبِلُوا بِالْبَيَانِ، وَبِهِ يُعْلَمُ الْجَوَابُ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَأَوْجَبَ " الْحَجَّ " فِي " آلِ عِمْرَانَ "، وَأَمَّا فِي " الْبَقَرَةِ " فَذَكَرَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَأَمَرَ بِتَمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْبَيْتَ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَكَانَ خِطَابُ النَّصَارَى فِي " آلِ عِمْرَانَ " أَكْثَرَ، كَمَا أَنَّ خِطَابَ الْيَهُودِ فِي " الْبَقَرَةِ " أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أَصْلٌ وَالْإِنْجِيلَ فَرْعٌ لَهَا، وَالنَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ دَعَا الْيَهُودَ وَجَاهَدَهُمْ، وَكَانَ جِهَادُهُ لِلنَّصَارَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ؛ كَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فِيهَا الدِّينُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَخُوطِبَ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ، وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فِيهَا خِطَابُ مَنْ أَقَرَّ بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ " الْمُؤْمِنِينَ "، فَخُوطِبُوا: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَمَّا سُورَةُ " النِّسَاءِ " فَتَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ؛ وَهِيَ نَوْعَانِ: مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَقْدُورَةٌ لَهُمْ؛ كَالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ، وَلِهَذَا افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النِّسَاءِ: 1)، ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَبَيَّنَ الَّذِينَ يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ وَالْمَوَارِيثِ. وَمِنْهَا الْعُهُودُ الَّتِي حَصَلَتْ بِالرِّسَالَةِ وَالْمَوَاثِيقِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالرِّسَالَةِ، وَالَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ. وَأَمَّا " الْمَائِدَةُ " فَسُورَةُ الْعُقُودِ، وَبِهِنَّ تَمَامُ الشَّرَائِعِ؛ قَالُوا: وَبِهَا تَمَّ الدِّينُ فَهِيَ سُورَةُ التَّكْمِيلِ، بِهَا ذِكْرُ الْوَسَائِلِ، كَمَا فِي " الْأَنْعَامِ " وَ " الْأَعْرَافِ " ذِكْرُ الْمَقَاصِدِ، كَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، كَتَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ. وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُنْخَنِقَةِ، وَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ تَمَامِ الْإِحْرَامِ، وَإِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ تَمَامِ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَالْوُضُوءِ وَالْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (الْمَائِدَةِ: 48) وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنِ ارْتَدَّ عَوَّضَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ. وَلَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ كَامِلًا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا. وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّاتِ: " الْبَقَرَةِ "، وَ " آلِ عِمْرَانَ "، وَ " النِّسَاءِ "، وَ " الْمَائِدَةِ " مِنْ أَحْسَنِ التَّرْتِيبِ؛ وَهُوَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قُدِّمَتْ فِيهِ سُورَةُ " النِّسَاءِ " عَلَى " آلِ عِمْرَانَ "؛ وَتَرْتِيبُ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، بَلْ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ مُصْحَفٍ تَرْتِيبٌ، وَلَكِنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَكْمَلُ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يُكْتَبْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصْحَفٌ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَغْيِيرِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَلِهَذَا تَأَخَّرَتْ كِتَابَتُهُ إِلَى أَنْ كَمُلَ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِمَوْتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ، ثُمَّ نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ.
اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ فِي سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ بَرَاءَةَ؛ فَقِيلَ: كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ وَأَرَادُوا نَقْضَهُ كَتَبُوا لَهُمْ كِتَابًا، وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ الْبَسْمَلَةَ؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ لِلْكُفَّارِ، قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ وَلَمْ يُبَسْمِلْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ، وَلَكِنْ فِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " أَنَّ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتِ " الْأَنْفَالُ " مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ، وَبَرَاءَةُ مِنْ آخِرِهِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقَضَى النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، ثُمَّ فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا الْبَسْمَلَةَ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ " الْبَقَرَةَ " لِطُولِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُمَا سُورَتَانِ، أَوِ " الْأَنْفَالُ " سُورَةٌ وَ " بَرَاءَةُ " سُورَةٌ، تُرِكَتِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا. وَفِي " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ " أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ أَمَانٌ وَ " بَرَاءَةَ " نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: " وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ – مَا نَزَلَ بِهَا فِيهَا ".
السُّوَرِ تَعْرِيفُهَا: قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: السُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ، فَمَنْ هَمَزَهَا جَعَلَهَا مِنْ " أَسْأَرْتُ "، أَيْ: أَفْضَلْتُ مِنَ السُّؤْرِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهَا جَعَلَهَا مِنَ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ وَسَهَّلَ هَمْزَتَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ شَبَّهَهَا بِسُورِ الْبِنَاءِ، أَيْ: الْقِطْعَةِ مِنْهُ، أَيْ: مَنْزِلَةٍ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَقِيلَ: مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ لِإِحَاطَتِهَا بِآيَاتِهَا، وَاجْتِمَاعِهَا كَاجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ بِالسُّورِ، وَمِنْهُ السُّوَارُ لِإِحَاطَتِهِ بِالسَّاعِدِ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَاوُ أَصْلِيَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ السُّورَةِ بِمَعْنَى الْمَرْتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ مَرَتَّبَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ تَرْتِيبًا مُنَاسِبًا، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي " شَرْحِ مَنْهُوكَةِ أَبِي نُوَاسٍ ": إِنَّمَا سُمِّيَتْ سُورَةً لِارْتِفَاعِ قَدْرِهَا؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمِنْهُ رَجُلٌ سَوَّارٌ، أَيْ: مُعَرْبِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْلُو بِفِعْلِهِ وَيَشْتَطُّ. وَيُقَالُ: أَصْلُهَا مِنَ السَّوْرَةِ، وَهِيَ الْوَثْبَةُ تَقُولُ: سُرْتُ إِلَيْهِ وَثُرْتُ إِلَيْهِ. وَجَمْعُ سُورَةِ الْقُرْآنِ سُوَرٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَجَمْعُ سُورَةِ الْبِنَاءِ سُورٌ بِسُكُونِهَا. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص: 21)، نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ، فَسُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ لِتَرَكُّبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: لِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَشَأْنِ قَارِئِهِ. ثُمَّ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ كَذَا، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: هَذَا مُقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْبَقَرَةِ ". وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: حَدُّ السُّورَةِ قُرْآنٌ يَشْتَمِلُ عَلَى آيٍ ذَوَاتِ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ. وَأَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْطِيعِ الْقُرْآنِ سُوَرًا؟ قُلْتُ: هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَقْطِيعِ السُّوَرِ آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ، لِكُلِّ آيَةٍ حَدٌّ وَمَطْلَعٌ، حَتَّى تَكُونَ كُلُّ سُورَةٍ- بَلْ كُلُّ آيَةٍ- فَنًّا مُسْتَقِلًّا، وَقُرْآنًا مُعْتَبَرًا، وَفِي تَسْوِيرِ السُّورَةِ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ السُّورَةِ بِمُجَرَّدِهَا مُعْجِزَةً وَآيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُوِّرَتِ السُّوَرُ طِوَالًا وَقِصَارًا وَأَوْسَاطًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الطُّولَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِعْجَازِ؛ فَهَذِهِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَهِيَ مُعْجِزَةٌ إِعْجَازَ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ ". ثُمَّ ظَهَرَتْ لِذَلِكَ حِكْمَةٌ فِي التَّعْلِيمِ، وَتَدْرِيجِ الْأَطْفَالِ مِنَ السُّوَرِ الْقِصَارِ إِلَى مَا فَوْقَهَا يَسِيرًا يَسِيرًا؛ تَيْسِيرًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لِحِفْظِ كِتَابِهِ، فَتَرَى الطِّفْلَ يَفْرَحُ بِإِتْمَامِ السُّورَةِ، فَرَحَ مَنْ حَصَلَ عَلَى حَدٍّ مُعْتَبَرٍ، وَكَذَلِكَ الْمُطِيلُ فِي التِّلَاوَةِ يَرْتَاحُ عِنْدَ خَتْمِ كُلِّ سُورَةٍ ارْتِيَاحَ الْمُسَافِرِ إِلَى قَطْعِ الْمَرَاحِلِ الْمُسَمَّاةِ مَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ أُخْرَى؛ إِلَّا أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ نَمَطٌ مُسْتَقِلٌّ فَسُورَةُ " يُوسُفَ " تُتَرْجِمُ عَنْ قِصَّتِهِ، وَسُورَةُ " بَرَاءَةَ " تُتَرْجِمُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَكَامِنِ أَسْرَارِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا كَانَتِ الْكُتُبُ السَّالِفَةُ كَذَلِكَ؟ قُلْتُ: لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَاتٍ مِنْ نَاحِيَةِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهَا لَمْ تُيَسَّرْ لِلْحِفْظِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " الْفَوَائِدُ فِي تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا كَثِيرَةٌ- وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ- مُسَوَّرَةً، وَبَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَبْوَابًا مُوَشَّحَةَ الصُّدُورِ بِالتَّرَاجِمِ مِنْهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِذَا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَأَصْنَافٌ كَانَ أَحْسَنَ وَأَفْخَمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَابًا وَاحِدًا، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخِرِهِ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَبْعَثَ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْهُ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكِتَابِ بِطُولِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُسَافِرُ إِذَا قَطَعَ مِيلًا أَوْ فَرْسَخًا وَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ بَرِّيَّةٍ نَفَّسَ ذَلِكَ مِنْهُ وَنَشَّطَهُ لِلْمَسِيرِ، وَمِنْ ثَمَّةَ جُزِّئَ الْقُرْآنُ أَجْزَاءً وَأَخْمَاسًا. وَمِنْهَا أَنَّ الْحَافِظَ إِذَا حَذَقَ السُّورَةَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً فَيَعْظُمُ عِنْدَهُ مَا حَفِظَهُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ " الْبَقَرَةَ "، وَ " آلَ عِمْرَانَ " جَلَّ فِينَا ". وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ أَفْضَلَ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّفْصِيلَ يُسَبِّبُ تَلَاحُقَ الْأَشْكَالِ وَالنَّظَائِرِ وَمُلَاءَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، وَبِذَلِكَ تَتَلَاحَظُ الْمَعَانِي وَالنَّظْمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ.
أَمَّا الْآيَةُ تَعْرِيفُهَا فَلَهَا فِي اللُّغَةِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: جَمَاعَةُ الْحُرُوفِ؛ قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ: بِجَمَاعَتِهِمْ. ثَانِيهَا: الْآيَةُ: الْعَجَبُ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ آيَةٌ فِي الْعِلْمِ وَفِي الْجَمَالِ، قَالَ الشَّاعِرُ: آيَةٌ فِي الْجَمَالِ لَيْسَ لَهُ فِي الْـ *** حُسْنِ شِبْهٌ وَمَا لَهُ مِنْ نَظِيرِ فَكَأَنَّ كُلَّ آيَةٍ عَجَبٌ فِي نَظْمِهَا وَالْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِيهَا. ثَالِثُهَا: الْعَلَامَةُ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: خَرِبَتْ دَارُ فُلَانٍ وَمَا بَقِيَ فِيهَا آيَةٌ، أَيْ: عَلَامَةٌ، فَكَأَنَّ كُلَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَاخْتُلِفَ فِي وَزْنِهَا؛ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: " فَعَلَةٌ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَأَصْلُهَا " أَيَيَةٌ " تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَجَاءَتْ آيَةً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهَا " آيِيَةُ " عَلَى وَزْنِ " فَاعِلَةٌ " حُذِفَتِ الْيَاءُ الْأُولَى مَخَافَةَ أَنْ يُلْتَزَمَ فِيهَا مِنَ الْإِدْغَامِ مَا لَزِمَ فِي دَابَّةٍ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمُفْرَدِ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ ": " حَدُّ الْآيَةِ قُرْآنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ جُمَلٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا، ذُو مَبْدَأٍ وَمَقْطَعٍ مُنْدَرِجٍ فِي سُورَةٍ، وَأَصْلُهَا الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} (الْبَقَرَةِ: 248)؛ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِلْفَضْلِ وَالصِّدْقِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ كَلِمَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْآيَةُ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، لَيْسَ بَيْنَهَا شَبَهٌ بِمَا سِوَاهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ فِي السُّوَرِ؛ سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهَا، وَعَلَى عَجْزِ الْمُتَحَدَّى بِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَلَامَةُ انْقِطَاعِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَانْقِطَاعِهَا عَمَّا بَعْدَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: " وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَسْمِيَةَ أَقَلَّ مِنَ الْآيَةِ آيَةً؛ لَوْلَا أَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " الْبَحْرِ ": لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ آيَةً إِلَّا {مُدْهَامَّتَانِ} (الرَّحْمَنِ: 64). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا إِنَّمَا تُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الشَّارِعِ، لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ السُّورَةِ، فَالْآيَةُ طَائِفَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، عُلِمَ بِالتَّوْقِيفِ انْقِطَاعُهَا مَعْنًى عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا وَالْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي غَيْرِهِمَا، غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَتِ السُّورَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " الْآيَاتُ عِلْمُ تَوْقِيفٍ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ، فَعَدُّوا: الم آيَةً حَيْثُ وَقَعَتْ مِنَ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحِ بِهَا، وَهِيَ سِتٌّ (الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالْعَنْكَبُوتُ، وَالرُّومُ، وَلُقْمَانُ، وَالسَّجْدَةُ)، وَكَذَلِكَ: (المص) آيَةُ (الْأَعْرَافِ)، وَ (المر) (الرَّعْدِ)، لَمْ تُعَدَّ آيَةً، وَ (الر) (يُونُسَ، هُودٍ، يُوسُفَ، إِبْرَاهِيمَ، وَالْحِجْرِ)، لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي سُوَرِهَا الْخَمْسِ، وَ (طسم) آيَةٌ فِي سُورَتَيْهَا (الشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ) وَ (طه) وَ (يس) آيَتَانِ، وَ (طس) (النَّمْلِ) لَيْسَتْ بِآيَةٍ، وَ (حم) آيَةٌ فِي سُوَرِهَا كُلِّهَا، وَ (حم عسق) (الشُّورَى) آيَتَانِ، وَ (كهيعص) (مَرْيَمَ) آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَ (ص) وَ (ق) وَ (ن) ثَلَاثَتُهَا لَمْ تَعُدَّ آيَةً؛ هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ لَمْ يَعُدُّوا شَيْئًا مِنْهَا آيَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا عَدُّوا (يس) آيَةً، وَلَمْ يَعُدُّوا (طس)؛ لِأَنَّ (طس) تُشْبِهُ الْمُفْرَدَ، كَقَابِيلَ فِي الزِّنَةِ وَالْحُرُوفِ، وَ (يس) تُشْبِهُ الْجُمْلَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَهُ يَاءٌ، وَلَيْسَ لَنَا مُفْرَدٌ أَوَّلُهُ يَاءٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ذَكَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَسُورَةَ الْمُلْكِ ثَلَاثُونَ آيَةً، وَصَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ ". قَالَ: وَتَعْدِيدُ الْآيِ مِنْ مُفَصَّلَاتِ الْقُرْآنِ؛ وَمِنْ آيَاتِهِ طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ، وَمِنْهُ مَا يَنْقَطِعُ وَمِنْهُ مَا يَنْتَهِي إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا آيَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَهِيَ اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ، وَقَدْ تَكُونُ عَلَى حَرْفَيْنِ، مِثْلَ: " مَا " وَ " لِي " وَ " لَهُ " وَ " لَكَ "، وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ عَشَرَةَ أَحْرُفٍ مِثْلَ: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (النُّورِ: 55)، وَ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} (هُودٍ: 28)، وَ {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الْحِجْرِ: 22)، وَقَدْ تَكُونُ الْكَلِمَةُ آيَةً مِثْلَ: {وَالْفَجْرِ}، {وَالضُّحَى}، {وَالْعَصْرِ}، وَكَذَلِكَ الم، وَ طه، وَ يس، وَ حم فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَ حم عسق عِنْدَهُمْ كَلِمَتَانِ، وَغَيْرُهُمْ لَا يُسَمِّي هَذِهِ آيَاتٍ؛ بَلْ يَقُولُ: هَذِهِ فَوَاتِحُ لِسُوَرٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: لَا أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ وَحْدَهَا آيَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: {مُدْهَامَّتَانِ} فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ (الْآيَةَ: 64).
قَدْ يَكُونُ لِلسُّورَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَدْ يَكُونُ لَهَا اسْمَانِ كَسُورَةِ " الْبَقَرَةِ " يُقَالُ لَهَا: فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ؛ لِعِظَمِهَا وَبَهَائِهَا، وَ " آلِ عِمْرَانَ " يُقَالُ: اسْمُهَا فِي التَّوْرَاةِ طَيِّبَةٌ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَ " النَّحْلِ " تُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمَ؛ لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُورَةِ حم عسق وَتُسَمَّى " الشُّورَى "، وَسُورَةِ " الْجَاثِيَةِ " وَتُسَمَّى الشَّرِيعَةَ، وَسُورَةِ " مُحَمَّدٍ "- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُسَمَّى الْقِتَالُ. وَقَدْ يَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ، كَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَالْعُقُودِ، وَالْمُنْقِذَةِ، وَرَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِيهِ حَدِيثًا، وَكَسُورَةِ غَافِرٍ، وَالطَّوْلِ وَالْمُؤْمِنِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} (غَافِرٍ: 28). وَقَدْ يَكُونُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ كَسُورَةِ " بَرَاءَةَ " وَ " التَّوْبَةِ "، وَالْفَاضِحَةِ وَالْحَافِرَةِ؛ لِأَنَّهَا حَفَرَتْ عَنْ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَالَ يَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: " هِيَ سُورَةُ الْعَذَابِ ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نَدْعُوهَا الْمُشَقْشِقَةَ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ: كَانَتْ تُدْعَى الْمُبَعْثِرَةَ. وَيُقَالُ لَهَا: الْمُسَوِّرَةُ، وَيُقَالُ لَهَا: الْبَحُوثُ. وَكَسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، ذَكَرَ بَعْضُهُمْ لَهَا بِضْعَةً وَعِشْرِينَ اسْمًا: الْفَاتِحَةَ، وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَأُمَّ الْكِتَابِ، وَأُمَّ الْقُرْآنِ، وَثَبَتَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ كَرَاهِيَةَ تَسْمِيَتِهَا عَنْ قَوْمٍ، وَالسَّبْعَ الْمَثَانِي، وَالصَّلَاةَ، ثَبَتَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَالْحَمْدَ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَسُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أُنْزِلَتْ مَرَّتَيْنِ، وَالْوَافِيَةَ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَهَا لَا يَجُوزُ، وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَالْكَنْزَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالشَّافِيَةَ، وَالشِّفَاءَ، وَالْكَافِيَةَ، وَالْأَسَاسَ. وَيَنْبَغِي الْبَحْثُ عَنْ تَعْدَادِ الْأَسَامِي: هَلْ هُوَ تَوْقِيفِيٌّ أَوْ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ؟ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَنْ يَعْدِمَ الْفَطِنُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَقْتَضِي اشْتِقَاقَ أَسْمَائِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ.
يَنْبَغِي النَّظَرُ فِي وَجْهِ اخْتِصَاصِ كُلِّ سُورَةٍ بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ تُرَاعِي فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ أَخْذَ أَسْمَائِهَا مِنْ نَادِرٍ أَوْ مُسْتَغْرَبٍ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ مِنْ خَلْقٍ أَوْ صِفَةٍ تَخُصُّهُ، أَوْ تَكُونُ مَعَهُ أَحْكَمُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَسْبَقُ لِإِدْرَاكِ الرَّائِي لِلْمُسَمَّى. وَيُسَمُّونَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْكَلَامِ أَوِ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ فِيهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَسْمَاءُ سُوَرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ كَتَسْمِيَةِ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " بِهَذَا الِاسْمِ لِقَرِينَةِ ذِكْرِ قِصَّةِ " الْبَقَرَةِ " الْمَذْكُورَةِ فِيهَا، وَعَجِيبِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَسُمِّيَتْ سُورَةُ " النِّسَاءِ " بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِمَا تَرَدَّدَ فِيهَا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ " النِّسَاءِ "، وَتَسْمِيَةُ سُورَةِ " الْأَنْعَامِ "؛ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ أَحْوَالِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ لَفْظُ " الْأَنْعَامِ " فِي غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} (الْآيَةَ: 142)، إِلَى قَوْلِهِ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} (الْآيَةُ: 142)، لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا؛ كَمَا وَرَدَ ذِكْرُ النِّسَاءِ فِي سُوَرٍ إِلَّا أَنَّ مَا تَكَرَّرَ وَبُسِطَ مِنْ أَحْكَامِهِنَّ لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِ سُورَةِ " النِّسَاءِ ". وَكَذَا سُورَةُ " الْمَائِدَةِ " لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ " الْمَائِدَةِ " فِي غَيْرِهَا فَسُمِّيَتْ بِمَا يَخُصُّهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ " هُودٍ " ذِكْرُ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلِمَ تَخْتَصُّ بَاسْمِ هُودٍ وَحْدَهُ؟ وَمَا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهِ، وَقِصَّةُ نُوحٍ فِيهَا أَطْوَلُ وَأَوْعَبُ؟ قِيلَ: تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَصَصُ فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ "، وَسُورَةِ " هُودٍ "، وَ " الشُّعَرَاءِ " بِأَوْعَبَ مِمَّا وَرَدَتْ فِي غَيْرِهَا، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ اسْمُ " هُودٍ "- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَتَكَرُّرِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، وَالتَّكْرَارُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ فِيهَا، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ تَكْرَارِ اسْمِ هُودٍ. قِيلَ: لَمَّا جُرِّدَتْ لِذِكْرِ نُوحٍ وَقِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ سُورَةٌ بِرَأْسِهَا، فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ تُسَمَّى بِاسْمِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةٍ تَضَمَّنَتْ قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَكَرَّرَ اسْمُهُ فِيهَا أَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ تُفْرَدْ لِذِكْرِهِ سُورَةٌ وَلَا تَكَرَّرَ اسْمُهُ مَرَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَهَا فِي غَيْرِ سُورَةِ هُودٍ، فَكَانَتْ أَوْلَى السُّوَرِ بِأَنْ تُسَمَّى بِاسْمِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَاعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَةَ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ يَجْرِي فِيهَا مِنْ رَعْيِ التَّسْمِيَةِ مَا ذَكَرْنَا. وَانْظُرْ سُورَةَ (ق) لِمَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْكَلِمَاتِ بِلَفْظِ الْقَافِ. وَمِنْ ذَلِكَ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وَلِيَتْهُ، حَتَّى لَمْ تَكُنْ لِتَرِدَ الم فِي مَوْضِعِ الر، وَلَا حم فِي مَوْضِعِ طس؛ لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا أَعْلَامٌ لَهَا، وَأَسْمَاءٌ عَلَيْهَا. وَكَذَا وَقَعَ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا مَا كَثُرَ تَرْدَادُهُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنْ كَلِمِهَا؛ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّكَ إِذَا نَاظَرْتَ سُورَةً مِنْهَا بِمَا يُمَاثِلُهَا فِي عَدَدِ كَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا وَجَدْتَ الْحُرُوفَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا تِلْكَ السُّورَةُ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي كَلِمَاتِهَا مِنْهَا فِي نَظِيرَتِهَا وَمُمَاثِلَتِهَا فِي عَدَدِ كَلِمِهَا وَحُرُوفِهَا؛ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بِسُورَةٍ مِنْهَا مَا يُمَاثِلُهَا فِي عَدَدِ كَلِمِهَا فَفِي اطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْمُمَاثَلَاتِ مِمَّا يُوجَدُ لَهُ النَّظِيرُ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ لَوْ وُجِدَ مَا يُمَاثِلُهَا لَجَرَى عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ. وَقَدِ اطَّرَدَ هَذَا فِي أَكْثَرِهَا، فَحُقَّ لِكُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا أَلَّا يُنَاسِبَهَا غَيْرُ الْوَارِدِ فِيهَا؛ فَلَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ ق مِنْ سُورَةِ ن لَمْ يُمْكِنْ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ الْوَاجِبِ مُرَاعَاتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " مِنَ الْكَلِمِ الْوَاقِعِ فِيهَا: الر مِائَتَا كَلِمَةٍ وَعِشْرُونَ أَوْ نَحْوُهَا، فَلِهَذَا افْتُتِحَتْ بِـ الر، وَأَقْرَبُ السُّوَرِ إِلَيْهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ سُورَةُ " النَّحْلِ "، وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْهَا مِمَّا يُرَكَّبُ عَلَى الر مِنْ كَلِمِهَا مِائَتَا كَلِمَةٍ، مَعَ زِيَادَتِهَا فِي الطُّولِ عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ وَرَدَتِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَّلِهَا الر
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْحَرَالِيُّ جُزْءًا، وَأَنْهَى أَسَامِيَهُ إِلَى نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا: 1- سَمَّاهُ كِتَابًا فَقَالَ: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (الدُّخَانِ: 1 وَ2). 2- وَسَمَّاهُ قُرْآنًا فَقَالَ: {إِنَّهُ لِقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الْآيَةَ (الْوَاقِعَةِ: 77). 3- وَسَمَّاهُ كَلَامًا فَقَالَ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 6). 4- وَسَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ: {، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النِّسَاءِ: 174). 5- وَسَمَّاهُ هُدًى فَقَالَ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} (لُقْمَانَ: 3). 6- وَسَمَّاهُ رَحْمَةً فَقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (يُونُسَ: 7). 7- وَسَمَّاهُ فُرْقَانًا فَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (الْفُرْقَانِ: 1) الْآيَةَ. 8- وَسَمَّاهُ شِفَاءً فَقَالَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} (الْإِسْرَاءِ: 82). 9- وَسَمَّاهُ مَوْعِظَةً فَقَالَ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (يُونُسَ: 57). 10- وَسَمَّاهُ ذِكْرًا فَقَالَ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 50). 11- وَسَمَّاهُ كَرِيمًا فَقَالَ: {إِنَّهُ لِقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الْوَاقِعَةِ: 77). 12- وَسَمَّاهُ عَلِيًّا فَقَالَ: {، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزُّخْرُفِ: 4). 13- وَسَمَّاهُ حِكْمَةً فَقَالَ: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} (الْقَمَرِ: 5). 14- وَسَمَّاهُ حَكِيمًا فَقَالَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (يُونُسَ: 1). 15- وَسَمَّاهُ مُهَيْمِنًا فَقَالَ: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (الْمَائِدَةِ: 48). 16- وَسَمَّاهُ مُبَارَكًا فَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} (ص 29) الْآيَةَ. 17- وَسَمَّاهُ حَبْلًا فَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آلِ عِمْرَانَ: 103). 18- وَسَمَّاهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَقَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (الْأَنْعَامِ: 153). 19- وَسَمَّاهُ الْقَيِّمَ فَقَالَ: {، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا} (الْكَهْفِ: 1 وَ2) وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْقَيِّمَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا أَيْ: لَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا. 20- وَسَمَّاهُ فَصْلًا فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} (الطَّارِقِ: 13). 21- وَسَمَّاهُ نَبَأً عَظِيمًا فَقَالَ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} (النَّبَأِ: 1 وَ2). 22- وَسَمَّاهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزَّمْرِ: 23). 23- وَسَمَّاهُ تَنْزِيلًا فَقَالَ: {، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 192). 24- وَسَمَّاهُ رُوحًا فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (الشُّورَى: 52). 25- وَسَمَّاهُ وَحْيًا فَقَالَ: {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 45). 26- وَسَمَّاهُ الْمَثَانِيَ فَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87) الْآيَةَ. 27- وَسَمَّاهُ عَرَبِيًّا فَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (الزَّمْرِ: 28)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " غَيْرَ مَخْلُوقٍ ". 28- وَسَمَّاهُ قَوْلًا فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} (الْقَصَصِ: 51) الْآيَةَ. 29- وَسَمَّاهُ بَصَائِرَ فَقَالَ: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} (الْجَاثِيَةِ: 20) الْآيَةَ. 30- وَسَمَّاهُ بَيَانًا فَقَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 138). 31- وَسَمَّاهُ عِلْمًا فَقَالَ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (الرَّعْدِ: 37). 32- وَسَمَّاهُ حَقًّا فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آلِ عِمْرَانَ: 62) الْآيَةَ. 33 – وَسَمَّاهُ الْهَادِيَ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي} (الْإِسْرَاءِ: 9) الْآيَةَ. 34- وَسَمَّاهُ عَجَبًا فَقَالَ: {قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي} الْحَاقَّةِ: 1- 2) الْآيَةَ. 35- وَسَمَّاهُ تَذْكِرَةً فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لِتَذْكِرَةٌ} (الْحَاقَّةِ: 48) الْآيَةَ. 36 37- وَسَمَّاهُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَقَالَ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لُقْمَانَ: 22). 38- وَسَمَّاهُ مُتَشَابِهًا فَقَالَ: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (الزُّمَرِ: 23) الْآيَةَ. 39- وَسَمَّاهُ صِدْقًا فَقَالَ: {، وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} (الزُّمَرِ: 33) الْآيَةَ أَيْ: بِالْقُرْآنِ. 40- وَسَمَّاهُ عَدْلًا فَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (الْأَنْعَامِ: 115) الْآيَةَ. 41- وَسَمَّاهُ إِيمَانًا فَقَالَ: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (آلِ عِمْرَانَ: 193). 42- وَسَمَّاهُ أَمْرًا فَقَالَ: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} (الطَّلَاقِ: 5). 43- وَسَمَّاهُ بُشْرًى فَقَالَ: {هُدًى وَبُشْرَى} (النَّمْلِ: 2). 44- وَسَمَّاهُ مَجِيدًا فَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (الْبُرُوجِ: 21). 45- وَسَمَّاهُ زَبُورًا فَقَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 105) الْآيَةَ. 46- وَسَمَّاهُ مُبِينًا فَقَالَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (يُوسُفَ: 1). 47وَ 48- وَسَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَقَالَ: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ} (فُصِّلَتْ: 4) الْآيَةَ. 49- وَسَمَّاهُ عَزِيزًا فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (فُصِّلَتْ: 41) الْآيَةَ. 50- وَسَمَّاهُ بَلَاغًا فَقَالَ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} (إِبْرَاهِيمَ: 52) الْآيَةَ. 51- وَسَمَّاهُ قَصَصًا فَقَالَ: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يُوسُفَ: 3) الْآيَةَ. 52- 55- وَسَمَّاهُ أَرْبَعَةَ أَسَامِي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (عَبَسَ: 13 وَ14). انْتَهَى.
1- فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَهُوَ مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وَكِتَابَةً، وَأَصْلُهَا الْجَمْعُ، وَسُمِّيَتِ الْكِتَابَةُ لِجَمْعِهَا الْحُرُوفَ، فَاشْتُقَّ الْكِتَابُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنَ الْقِصَصِ وَالْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى أَوْجُهٍ مَخْصُوصَةٍ، وَيُسَمَّى الْمَكْتُوبُ كِتَابًا مَجَازًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (الْوَاقِعَةِ: 78)، أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَالْكِتَابَةُ حَرَكَاتٌ تَقُومُ بِمَحَلِّ قُدْرَةِ الْكَاتِبِ، خُطُوطٌ مَوْضُوعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ وَقَدْ يَغْلَطُ الْكَاتِبُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ. 2- وَأَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْيِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: جَمَعْتُهُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَا يُقَالُ لِكُلِّ جَمْعٍ قُرْآنٌ، وَلَا لِجَمْعِ كَلِّ كَلَامٍ قُرْآنٌ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا أَصْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتَهُ فَقَدْ قَرَأْتَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ جَمَعَ السُّوَرَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ قُرْآنًا لِكَوْنِهِ جَمَعَ ثَمَرَاتِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ السَّابِقَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ جَمَعَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ كُلِّهَا بِمَعَانٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الْأَنْعَامِ: 38). وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ وَ " قَرَأَ " مَادَّتُهُ بِمَعْنَى جَمَعَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَةِ: 17) فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا مَادَّتُهُ " قَرَأَ " بِمَعْنَى أَظْهَرَ وَبَيَّنَ، وَالْقَارِئُ يُظْهِرُ الْقُرْآنَ وَيُخْرِجُهُ، وَالْقُرْءُ الدَّمُ؛ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ، وَالْقُرْءُ الْوَقْتُ، فَإِنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا يَظْهَرُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ قُرْآنًا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْهُ وَالتِّلَاوَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قُرِئَتْ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. وَفِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ " لِلْخَطِيبِ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: " وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ اسْمٌ وَلَيْسَ مَهْمُوزًا، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ " قَرَأْتُ " وَلَوْ أُخِذَ مِنْ " قَرَأْتُ " لَكَانَ كُلُّ مَا قُرِئَ قُرْآنًا، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ؛ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يُهْمَزُ قَرَأْتُ، وَلَا يُهْمَزُ الْقُرَانُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَقْرَأُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَهْمِزُ " قَرَأْتُ " وَلَا يَهْمِزُ " الْقُرْانَ "، وَيَقُولُ: هُوَ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ يَعْنِي أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ غَيْرُ مُشْتَقٍّ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا ضَمَمْتُهُ إِلَيْهِ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِرَانِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ فِيهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قِرَانٌ، قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقُرَانُ بِغَيْرِ هَمْزٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَائِنِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ مِنْهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُشَابِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَهِيَ حِينَئِذٍ قَرَائِنُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الْهَمْزِ فِيهِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ؛ وَنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَيْ: جَمْعَهُ فِي قَلْبِكَ حِفْظًا، وَعَلَى لِسَانِكَ تِلَاوَةً، وَفِي سَمْعِكَ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ تُسْمَعُ قِرَاءَتُهُ الْمَخْلُوقَةُ، وَيُفْهَمُ مِنْهَا كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} (فُصِّلَتْ: 26) أَيْ: لَا تَفْهَمُوا وَلَا تَعْقِلُوا؛ لِأَنَّ السَّمْعَ الطَّبِيعِيَّ يَحْصُلُ لِلسَّامِعِ شَاءَ أَوْ أَبَى. 3- وَأَمَّا الْكَلَامُ فَمُشْتَقٌّ مِنَ التَّأْثِيرِ، يُقَالُ: كَلَمَهُ إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالْجَرْحِ، فَسُمِّيَ الْكَلَامُ كَلَامًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَائِدَةً لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ. 4- وَأَمَّا النُّورُ؛ فَلِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ غَوَامِضُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. 5- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " هُدًى "؛ فَلِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً بَيِّنَةً إِلَى الْحَقِّ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ. 6- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " ذِكْرًا " فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالتَّحْذِيرِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؛ وَهُوَ مَصْدَرُ ذَكَرْتُ ذِكْرًا، وَالذِّكْرُ الشَّرَفُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (الْأَنْبِيَاءِ: 10)، أَيْ: شَرَفُكُمْ. 7- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " تِبْيَانًا "؛ فَلِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنْوَاعَ الْحَقِّ وَكَشَفَ أَدِلَّتَهُ. 8- أَمَّا تَسْمِيَتُهُ " بَلَاغًا "؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ حَالَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِهِ. 19- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " مُبَيِّنًا "؛ فَلِأَنَّهُ أَبَانَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. 20 وَ21- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " بَشِيرًا وَنَذِيرًا "؛ فَلِأَنَّهُ بَشَّرَ بِالْجَنَّةِ وَأَنْذَرَ مِنَ النَّارِ. 22- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " عَزِيزًا " أَيْ: يُعْجِزُ وَيَعِزُّ عَلَى مَنْ يَرُومُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} (الْإِسْرَاءِ: 88) الْآيَةَ، وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْإِبْلَاغِ وَالْإِخْبَارِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْوَضْعِ الْبَدِيعِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَزِيزِ نَفْيُ الْمَهَانَةِ عَنْ قَارِئِهِ إِذَا عَمِلَ بِهِ. 23- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " فُرْقَانًا ": فَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، وَبِهِ سُمِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفَارُوقَ. 24- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " مَثَانِيَ " فَلِأَنَّ فِيهِ بَيَانُ قَصَصِ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ، فَيَكُونُ الْبَيَانُ ثَانِيًا لِلْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ، فَيُبَيِّنُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ " مَثَانِيَ " لِتَكْرَارِ الْحِكَمِ وَالْقَصَصِ، وَالْمَوَاعِظِ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ " الْفَاتِحَةِ " وَحْدَهَا. 25- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " وَحْيًا ": وَمَعْنَاهُ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ خَفِيًّا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلَامِ؛ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِإِلْهَامٍ كَالنَّحْلِ وَإِشَارَةِ النَّمْلِ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعَجَلَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِلْهَامًا بِسُرْعَةٍ وَخِفْيَةٍ. 26- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " حَكِيمًا ": فَلِأَنَّ آيَاتِهِ أُحْكِمَتْ بِذِكْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَأُحْكِمَتْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ عَلَامَتَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَعَمِلَ بِهِ ارْتَدَعَ عَنِ الْفَوَاحِشِ. 27- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " مُصَدِّقًا " فَإِنَّهُ صَدَّقَ " الْأَنْبِيَاءَ " الْمَاضِينَ أَوْ كُتُبَهُمْ قَبْلَ أَنْ تُغَيَّرَ وَتُبَدَّلَ. 28- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " مُهَيْمِنًا "؛ فَلِأَنَّهُ الشَّاهِدُ لِلْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. 29- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " بَلَاغًا "؛ فَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْإِعْلَامِ وَالْإِبْلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ. 30- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " شِفَاءً "؛ فَلِأَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ كَانَ لَهُ شِفَاءً مِنْ سَقَمِ الْكُفْرِ، وَمَنْ عَلِمَهُ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ شِفَاءً مِنْ سَقَمِ الْجَهْلِ. 31- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " رَحْمَةً " فَإِنَّ مَنْ فَهِمَهُ وَعَقِلَهُ كَانَ رَحْمَةً لَهُ. 32- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " قَصَصًا "؛ فَلِأَنَّ فِيهِ قَصَصَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَأَخْبَارَهُمْ. 33- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " مَجِيدًا " وَالْمُجِيدُ الشَّرِيفُ؛ فَمِنْ شَرَفِهِ أَنَّهُ حُفِظَ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَجَعَلَهُ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُؤْتَى بِمِثْلِهِ. 34- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " تَنْزِيلًا "؛ فَلِأَنَّهُ مَصْدَرُ نَزَّلْتُهُ لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْمَعَ جِبْرِيلَ كَلَامَهُ، وَفَهَّمَهُ إِيَّاهُ كَمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ، نَزَلَ بِهِ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَدَّاهُ هُوَ كَمَا فَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ. 35- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " بَصَائِرَ "؛ فَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ، وَهُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي أَغْرَاضِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} (الْأَنْعَامِ: 59). 36- وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ " ذِكْرَى "؛ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 105)، فَالْمُرَادُ بِالزَّبُورِ هُنَا جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، لَا يَخْتَصُّ بِزَبُورِ دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131) قَالَ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: يَعْنِي مَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِمَّا رَزَقَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.
ذَكَرَ الْمُظَفَّرِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ": لَمَّا جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ قَالَ: سَمُّوهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمُّوهُ إِنْجِيلًا. فَكَرِهُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمُّوهُ السِّفْرَ. فَكَرِهُوهُ مِنْ يَهُودَ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ لِلْحَبَشَةِ كِتَابًا يَدْعُونَهُ الْمُصْحَفَ فَائِدَةُ تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالْمُصْحَفِ فَسَمَّوْهُ بِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا الْكَرْمِ النَّحْوِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ التَّنُوخِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرُّمَّانِيَّ بِبَغْدَادَ، وَسُئِلَ: كُلُّ كِتَابٍ لَهُ تَرْجَمَةٌ، فَمَا تَرْجَمَةُ كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (إِبْرَاهِيمَ: 52).
قَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْحَادِي عَشَرَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْكَعْبَيْنِ: كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ جَدِّ قُرَيْشٍ، وَكَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، جَدِّ خُزَاعَةَ فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ سَلَمَةَ: إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَلِسَانِ خُزَاعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- نَزَلَ بِلُغَةِ الْكَعْبَيْنِ: كَعْبِ قُرَيْشٍ، وَكَعْبِ خُزَاعَةَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي أَنَّ خُزَاعَةَ جِيرَانُ قُرَيْشٍ، فَأَخَذُوا بِلُغَتِهِمْ. وَأَمَّا الْكَلْبِيُّ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، مِنْهَا خَمْسٌ بِلُغَةِ الْعَجُزِ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَجُزُ هُمْ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُشَمُ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَثَقِيفٌ، وَهَذِهِ الْقَبَائِلُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عُلْيَا هَوَازِنَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ. فَهَذِهِ عُلْيَا هَوَازِنَ، وَأَمَّا سُفْلَى تَمِيمٍ فَبَنُو دَارِمٍ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: بِكُلِّ لِسَانٍ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ: لَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِاللُّغَةِ إِلَّا نَبِيٌّ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يُرِيدُ مَنْ بُعِثَ بِلِسَانِ جَمَاعَةِ الْعَرَبِ حَتَّى يُخَاطِبَهَا بِهِ. قَالَ: وَقَدْ فَضَّلَ الْفَرَّاءُ لُغَةَ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الْعَرَبِ فَيَخْتَارُونَ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ أَحْسَنَهَا، فَصَفَا كَلَامُهُمْ، وَذَكَرَ قُبْحَ عَنْعَنَةِ تَمِيمٍ، وَكَشْكَشَةِ رَبِيعَةَ، وَعَجْرَفَةِ قَيْسٍ. وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَأْتِينَا بِكَلَامٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَا نَعْرِفُهُ، وَلَنَحْنُ الْعَرَبُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ رَبِّي عَلَّمَنِي فَتَعَلَّمْتُ، وَأَدَّبَنِي فَتَأَدَّبْتُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَسْتُ أَعْرِفُ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَرَفَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ ": قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، مَعْنَاهُ عِنْدِي فِي الْأَغْلَبِ لِأَنَّ غَيْرَ لُغَةِ قُرَيْشٍ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَنَحْوِهَا، وَقُرَيْشٌ لَا تَهْمِزُ، وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ صَارَ فِي عَجُزِ هَوَازِنَ مِنْهَا خَمْسَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: خَصَّ هَؤُلَاءِ دُونَ رَبِيعَةَ وَسَائِرِ الْعَرَبِ، لِقُرْبِ جِوَارِهِمْ مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْزِلِ الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرُ أَخَوَانِ، قَالَ: وَأَحَبُّ الْأَلْفَاظِ وَاللُّغَاتِ إِلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا لُغَاتُ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَدْنَاهُمْ مِنْ بُطُونِ مُضَرَ. وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ؛ فَمِنَ الْقَلِيلِ إِدْغَامُ {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} (الْآيَةَ: 4) فِي " الْحَشْرِ "، {وَمَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} (الْبَقَرَةِ: 217)، فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، فَإِنَّ الْإِدْغَامَ فِي الْمَجْزُومِ وَالِاسْمِ الْمُضَاعَفِ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَلِهَذَا قَلَّ، وَالْفَكُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ؛ نَحْوُ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} (الْبَقَرَةِ: 217)،}، وَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} (الْبَقَرَةِ: 282)، وَ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 31)، {وَيُمْدِدْكُمْ} (نُوحٍ: 12)، {وَمَنْ يُشَاقِقِ} فِي " النِّسَاءِ " (الْآيَةَ: 115)، وَ " الْأَنْفَالِ " (الْآيَةَ: 13)، {وَمَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} (التَّوْبَةِ: 63)، {فَلْيُمْدِدْ} (الْحَجِّ: 15)، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً} (طه: 27)، وَ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (طه: 31)، {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} (طه: 81). قَالَ: وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النِّسَاءِ: 157)؛ لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ الْتِزَامُ النَّصْبِ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَإِنْ كَانَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَّبِعُونَ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى نَصْبِ {مَا هَذَا بَشَرًا} (يُوسُفَ: 31)؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (النَّمْلِ: 65) أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ.
اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَلَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَتِلَاوَتُهُ إِلَّا بِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يُوسُفَ: 2)، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} الْآيَةَ (فُصِّلَتْ: 44)، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُعْجِزَةً شَاهِدَةً لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَدَلَالَةً قَاطِعَةً لِصِدْقِهِ، وَلِيَتَحَدَّى الْعَرَبَ الْعُرَبَاءَ بِهِ، وَيُحَاضِرَ الْبُلَغَاءَ وَالْفُصَحَاءَ وَالشُّعَرَاءَ بِآيَاتِهِ؛ فَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ؛ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي بَابِ الْبَيَانِ الْخَامِسِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ مَنْ لَوْ أَمْسَكَ عَنْ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى بِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَأَعْجَمِيًّا، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَوَجَدْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْلِيدًا لَهُ وَتَرْكًا لِلْمَسْأَلَةِ لَهُ عَنْ حُجَّتِهِ، وَمَسْأَلَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ مَنْ أَغْفَلَ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ " هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِيهِ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْقَوْلَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَذَا بِالنَّبَطِيَّةِ فَقَدْ أَكْبَرَ الْقَوْلَ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَتَى بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ شَيْءٌ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا عَجَزَتْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِلُغَاتٍ لَا يَعْرِفُونَهَا، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْجَمَةٌ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَجَازَتِ الصَّلَاةُ بِكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ، لَكِنْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ. فَمِنْ ذَلِكَ الطُّورُ (الطُّورِ: 1) جَبَلٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. (وَطَفِقَا) (الْأَعْرَافِ: 22) أَيْ: قَصَدَا بِالرُّومِيَّةِ. وَ (الْقِسْطُ) (الْأَنْعَامِ: 152)، وَ (الْقِسْطَاسُ) (الْإِسْرَاءِ: 35)، الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ. (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (الْأَعْرَافِ: 156) تُبْنَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ. وَ (السِّجِلُّ) (الْأَنْبِيَاءِ: 104) بِالْفَارِسِيَّةِ. وَ (الرَّقِيمُ) (الْكَهْفِ: 9): اللَّوْحُ بِالرُّومِيَّةِ. وَ (الْمُهْلُ) (الْكَهْفِ: 29) عَكَرُ الزَّيْتِ بِلِسَانِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. وَ (السُّنْدُسُ) (الْكَهْفِ: 31): الرَّقِيقُ مِنَ السِّتْرِ بِالْهِنْدِيَّةِ. وَالْـ (إِسْتَبْرَقُ) (الْكَهْفِ: 31): الْغَلِيظُ بِالْفَارِسِيَّةِ، بِحَذْفِ الْقَافِ. (السَّرِيُّ) (مَرْيَمَ: 24): النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالْيُونَانِيَّةِ. (طه) (طه: 1) أَيْ: طَأْ يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. (يُصْهَرُ) (الْحَجِّ: 20): أَيْ يُنْضَحُ بِلِسَانِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. (سِينِينَ) (التِّينِ: 2): الْحَسَنُ بِالنَّبَطِيَّةِ. (الْمِشْكَاةُ) (النُّورِ: 35) الْكُوَّةُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقِيلَ: الزُّجَاجَةُ تُسْرَجُ. الْـ (دُرِّيُّ) (النُّورِ: 35) الْمُضِيءُ بِالْحَبَشِيَّةِ. الْ (الْأَلِيمُ) (الْبَقَرَةِ: 10) الْمُؤْلِمُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. (نَاظِرِينَ إِنَّاهُ) (الْأَحْزَابِ: 53) أَيْ: نُضْجَهُ بِلِسَانِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. (الْمِلَّةُ الْآخِرَةُ) (ص: 7) أَيْ: الْأُولَى بِالْقِبْطِيَّةِ، وَالْقِبْطُ يُسَمُّونَ الْآخِرَةَ الْأُولَى، وَالْأُولَى الْآخِرَةَ. {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (الْكَهْفِ: 79) أَيْ: أَمَامَهُمْ. {الْيَمُّ} (الْأَعْرَافِ: 136) الْبَحْرُ بِالْقِبْطِيَّةِ. {بَطَائِنُهَا} (الرَّحْمَنِ: 54): ظَوَاهِرُهَا، بِالْقِبْطِيَّةِ. {الْأَبُّ} (عَبَسَ: 31): الْحَشِيشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} (الْمُزَّمِّلِ: 6) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ. {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} (الْحَدِيدِ: 28): قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ضِعْفَيْنِ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. {الْقَسْوَرَةُ} (الْمُدَّثِّرِ: 51): الْأَسَدُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (آلِ عِمْرَانَ: 3) أَعْجَمِيَّانِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ " الْأَنْجِيلِ " بِالْفَتْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ إِنَّمَا اتَّفَقَ فِيهَا أَنْ تَتَوَارَدَ اللُّغَاتُ، فَتَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ وَالْفُرْسُ وَالْحَبَشَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: " بَلْ كَانَ لِلْعَرَبِ الْعَارِبَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ بَعْضُ مُخَالَطَةٍ لِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ بِتِجَارَاتٍ، وَبِرِحْلَتَيِ قُرَيْشٍ، وَكَسَفَرِ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو إِلَى الشَّامِ، وَسَفَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَسَفَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَسَفَرِ الْأَعْشَى إِلَى الْحِيرَةِ وَصُحْبَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، فَعَلَّقَتِ الْعَرَبُ بِهَذَا كُلِّهِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً غَيَّرَتْ بَعْضَهَا بِالنَّقْصِ مِنْ حُرُوفِهَا وَجَرَتْ فِي تَخْفِيفِ ثِقَلِ الْعُجْمَةِ، وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي أَشْعَارِهَا وَمُحَاوَرَاتِهَا حَتَّى جَرَتْ مَجْرَى الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، وَوَقَعَ بِهَا الْبَيَانُ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، فَإِنْ جَهِلَهَا عَرَبِيٌّ فَكَجَهْلِهِ الصَّرِيحِ بِمَا فِي لُغَةِ غَيْرِهِ، وَكَمَا لَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى فَاطِرٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: فَحَقِيقَةُ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيَّةٌ، لَكِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ وَعَرَّبَتْهَا، فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ بِهَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ اللُّغَتَيْنِ اتَّفَقَتَا فِي لَفْظِهِ فَذَلِكَ بَعِيدٌ، بَلْ إِحْدَاهُمَا أَصْلٌ وَالْأُخْرَى فَرْعٌ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّا لَا نَدْفَعُ أَيْضًا جَوَازَ الِاتِّفَاقَاتِ إِلَّا قَلِيلًا شَاذًّا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: " إِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ اللُّغَاتِ وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ قَدْ سَبَقَهَا غَيْرُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إِبْرَاهِيمَ: 4). وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِوُقُوعِهِ إِلَى الْفُقَهَاءِ، وَالْمَنْعَ إِلَى أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي مَذْهَبٌ فِيهِ تَصْدِيقُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ أُصُولُهَا أَعْجَمِيَّةٌ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، إِلَّا أَنَّهَا سَقَطَتْ إِلَى الْعَرَبِ فَعَرَّبَتْهَا بِأَلْسِنَتِهَا، وَحَوَّلَتْهَا عَنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ إِلَى أَلْفَاظِهَا فَصَارَتْ عَرَبِيَّةً، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَدِ اخْتَلَطَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَهُوَ صَادِقٌ، وَمَنْ قَالَ: أَعْجَمِيَّةٌ فَصَادِقٌ. قَالَ: وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا هَذَا لِئَلَّا يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الْفُقَهَاءِ، فَيَنْسِبَهُمْ إِلَى الْجَهْلِ، وَيَتَوَهَّمَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُ، فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالتَّأْوِيلِ، وَأَشَدَّ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ قَائِلًا فِي مَقَالَتِهِ يَنْسُبُهُ إِلَى الْجَهْلِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَالْقَوْلُ إِذَنْ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَوَائِلِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ.
|